رجال من التاريخ … الشّيخ فياض الطراونة … بقلم : نعمات الطراونة

الوصلة نيوز _ الشّيخ فياض الطراونة
فيّاض الخير هكذا كان يُلَقّب، وُلِد في بداية القرن العشرين، والده محمد علي الطراونة، أحد رجالات” ثورة الكرك” ( أو كما يسمّونها الهيّة، أو هبّة الكرك، أو حادثة الكرك)، وهي انتفاضة الكرك المعروفة ضدّ السلطات العثمانيّة عام 1910.
أعدمت تركيا والده مع العديد من أبناء الكرك في ساحة المسجد الحميدي أمام الأهالي، وهنا تجسّد أنبل وأعظم مشهد رجولي وبطولي، حيث تسابق هو وابن أخته على أن يكون كلّ منهما هو أوّل من يُعدم، فقد طلب محمود إسماعيل القطاونة( أبو شمّا) _وهو ابن أخت محمد علي الطراونة_ من الحاكم العسكري أن يُعْدَم قبل خاله؛ لأنه لا يقبل أن يُعدم خاله أمامه في صورة تُعزِّز الاحترام حتى في لحظات الموت، ممّا أثار حفيظة العصملي، وفي مشهد مهيب طلب من الحاكم العسكري العثماني قبل الشّنق أن يحضر أمير الحجاج آنذاك الحاج محمد سليمان الطراونة( أبو داوود)؛ ليوصيه على فياض الذي يبلغ من العمر سبع سنوات.
شهد مع والدته لحظات الإعدام، وأخذ عِقال والده بعد شنقه، عندها اقترب منه جنرال تركيّ، ووضع العِقال على رأس الصّغير، وخاطبه قائلاً: “أنت راح تكون أقوى منه وأحرص على الأرض”.
أخذت والدته ثريا بنت خلف الطراونة على عاتقها تربية اليتيم، فكانت تجلس في المْحَرم( مجلس النساء في بيت الشّعر)، وتُمسك بطرف ثوبه وهو يجلس مع الرّجال؛ لتمنعه من اللعب مع أقرانه، ولتثبته في مجلس الرّجال يسمع أحاديثهم، ويتعلّم منهم، فهي تعي جيّدًا أنّ المجالس مدارس، وعليه أن ينهل من علومها ومعارفها ومواقفها منذ نعومة أظفاره.
نشأ في كنف أعمامه، ومنهم الشّيخ محمد عبيد الطراونة، وأخواله وعلى رأسهم الشّيخ حمد خلف الطراونة، وكان رجالات العشيرة آنذاك يحرصون على امتلاك الأراضي، وعند الشّراء تُقسّم على الجميع، حيث كانت تذهب الأراضي لبعض المتكاسلين، لكنّ فيّاض رفض هذا السلوك، وقال:” كلّ ذراعه من خام يكسيه”، فقد نافس رجالات العشيرة في امتلاك الأرض معتمدًا على نفسه وبمساعدة صاحب الوصاية عليه الحاج محمد سليمان الطراونة.
استعان في ريعان شبابه بـ( مرابعيّة/ عمال وحصادين) من الخليل، وقد ضُرِب المثل في قوتهم وسرعة إنجازهم، وبعد أن قرروا الرّحيل، تزوّج أختهم الحاجة فاطمة أبو زهرة، وهي والدة الشّيخ حَمَد( أبو عارف).
في عام 1947م أصاب النّاس قحط لدرجة أنّ الأغنام تأكل صوف بعضها بعضًا، وهنا ظهرت مروءة وكرم الشّيخ فيّاض حيث رهن أرضه في منطقة الباسلية واعتدّ بقيمة الرّهن قمحًا؛ ليكون طحينًا وبذارًا للعام القادم، وقام بتوزيعه على أهله وأقاربه.
عاش بين أهله وعشيرته محبًّا لهم، عاملاً على جمع كلمتهم وتوحيد صفوفهم، مُقدِّمًا لهم كلّ الدّعم المادي والمعنوي، حيث تبرع من أرضه لمقبرة قرية الحسينية، وقدّم أرضًا لبناء المسجد، والمركز الصحيّ، كما اهتمّ بالتعليم، ولكي يضمن بقاء الخطيب( معلم الكتاتيب) زَوّجَ ابنته فضية لابن الخطيب، حيث بقي هذا الخطيب حتى إنشاء المدرسة.
تزّوج فيّاض بأربع نساء، وله من كلّ زوجة ولدان، حمد ومحمد من فاطمة، وأحمد وخالد من شيحة، وممدوح وصبر من شنوارة، وسليمان وعبدالله من خضرا، كلّهم ورثوا عن أبيهم الشّيخة وحسن الصفات.
في عام وفاته كان يقيم وأقاربه في منطقة شوهر، وعندما قرر الذّهاب للعلاج في بيروت قال مودعًا:” خاطركِ يا شوهر”، وكأنّه يعلم أنّ لا عودة بعد رحلة علاج في بيروت، عاد بعدها ليكمل علاجه في المشفى الإيطالي في عمان، وعندما جاء الممرض ليضع له جهاز الأوكسجين على أنفه رفض ذلك قائلاً:” الرّجال والجمال إن انمسكت من خشومها راحت”.
أوصى ولديه حمد وممدوح إن مات ليلاً عليهما ألاّ يُخبرا أحمد الطراونة( أبو هشام) حتى لا يُزعجاه، وكانت منيته في شهر شباط وتحديدًا قبل معركة الكرامة بأسبوعين…
مثل هؤلاء الرّجال تركوا بصمات واضحة ما زالت آثارها كالوشم في ظاهر اليد، تفاخرت بهم الحرائر وتغنّت بهم، فقلن في فيّاض:
الجوزة ما نعطيها طَلّق يا فيّاض … الجوزة ما نعطيها
الصّقر رابي فيها يا بيّ حَمَد… الصّقر رابي فيها
والجوزة هي منطقة غرب المزار، ولعلّ قسم كبير من أراضيها يمتلكه فيّاض.
وفي الهجيني يقلن:
يا فتنة يا الله أنا وإيّاك
نزبن على ديرة خوالي
نزبن عَ السّبع أبو حَمَد
فياض يا حامي التّالي
وعندما غيبه الموت لم يغب ذكره، فبقيت سيرته خالدة في بكائيات لا تُقال إلاّ به:
عَ بيت فياض حوّلوا الضّيفان
قهوة امبهّرة والغداء خرفان
يا فياض بنات البدو ينعنّك
سمعن بصيتك ولا يعرفنّك
يا عسم الطلايب وين فياض وين
في صدر المجالس لا يا أحمر العين
فياض وان خَشّ الجنينة نوّرَت
والشيوخ عن الكراسي ثَوَّرت
يا نجوم سهيل يا وربع طعش
أسألكن بالله لمن هالنعش
نعش فياض يا ملاّ نعش
يا شيخ قم كلّم الشّيوخ
يا برمكي يا لابس الجوخ
رحمه الله وأسكنه فسيح جناته.