آراء وكتاب

فكثير اللقاء كان قليلا … د. رشا سلامة

الوصلة نيوز – كنت أسعى باستماتة؛ لاستنهاض وعي والدي في غرفة العناية المركزة، على مدار أشهر مضت. حاولت اجتراح طرق شتى لتذكيره بزمان مضى بيني وبينه منذ واحد وأربعين عاما. أسمعته تفاصيل عدة جمعتنا في زمان ما، وإذ بأم كلثوم، في ليلة لا يبدد صمتها المطبق سوى أصوات الأجهزة الطبية الموصولة بجسده المنهك، تغني لكلينا مقطعا تقول فيه «فليكن ليلنا طويلا، طويلا، فكثير اللقاء كان قليلا».
ذهب والدي في سباته العميق، بعد صراع مرير لم ينجُ منه مع الفشل الكلوي وتبعاته، وهو من نجا من حروب ومآزق شتى، لازمته منذ كان طفلا في قرية أبو ديس شرقيّ القدس.
إبان عدوان العام 1966 على قرية السموع، اضطر خلال احتدام المظاهرات الدامية للقفز عن سور مدرسة الرشيدية في القدس. لم يكد يفق من مشهد أتراب له في الرشيدية يتساقطون أرضا بقمصانهم البيضاء المنقعة بالدماء، حتى حلت عليه نكسة العام 1976. عاش مسلسل القصف والنزوح واختبر حياة الخيام وضياع كل شيء بين عشية وضحاها. وما أزال أذكره جيدا وهو يعتلي نوافذ بيتنا في المنطقة الشرقية في السعودية، خلال حرب الخليج في مطلع التسعينيات، محاولا التعتيم عليها وإحكام غلقها؛ تحسبا من الغارات، وما أزال أذكر تدريبه على استخدام الأقنعة الضخمة التي تقي من السلاح الكيماوي، والتي وزعتها آنذاك شركة أرامكو التي عمل فيها في الشطر الأطول من حياته المهنية.
ولم تكد تمضي بضعة أسابيع على هجمات الحادي عشر من سبتمبر في مطلع الألفية، حتى سافر إلى بريطانيا لمناقشة أطروحته الدكتوراة في تخصص اللغويات الإنجليزية، مختبرا آنذاك ذروة التعاطي المرتاب عالميا مع كل ما هو عربي. بين هذه وتلك، عايشَ مناوشات وحروبا عدة كان شاهدا عليها وغير منخرط بها. كان عروبيا، بيد أنه لم يؤجر عقله وفكره لحزب أو جهة طوال حياته.
علمني الأسماء كلها، وأبجديات الحياة. في مطعم في قلب دمشق، علّمني استخدام الشوكة والسكين، حين يقتضي التواجد في مكان رسمي هذه الطريقة في تناول الطعام. وكان مدرب السباحة الذي علّمني، رغم جُبني، في أحد مسابح مجمع أرامكو السكني. وكان معلمي النزق الذي يصحح لي كلماتي الإنجليزية حين كنت أرافقه في جولة تسوق في شيكاغو. وكان هو من يصحبني عنوة نحو العروض المسرحية في عمّان، لأرتاد مسرحية سياسية من ساعتين ونيف، وإن لم أفهم كثيرا في ذلك العمر معنى الكلام الذي كان يدور على الخشبة. كان هو من يدفع أمامي بدفاتر سميكة لأذاكر ما قام بتلخيصه من كتب ضخمة، وسط دوامة عمله اليومية.
لن يعود هنالك من أحد يدخل معي في التحديات الفضولية لتخمين تاريخ فيلم مصري قديم أو مؤلف أغنية لمحمد عبد الوهاب أو ملحن أغنية لأم كلثوم. كان يغرس كل شيء بالتوازي، السياسة والفن والأكاديميا والحوارات العائلية. حين كان يحدثني عن الكويت في السبعينيات، كان يصف لي كل شيء بالتوازي: النسيج الاجتماعي للكويتيين، الجالية الفلسطينية الضخمة هناك، الصحافة الحرة بمقياس مشهود له عربيا، الحركة الفنية المتقدمة مقارنة بدول المنطقة، العملية التعليمية هناك والتي كان للمعلمين الفلسطينيين الباع الأطول فيها.
سأبقى في سيارتنا في أرامكو، مراهِقة، يقلّني هو لساعات أسبوعيا إلى المكتبة ذات المرافق الكثيرة، تاركا إياي وحدي أختبر عالم الكتب والمجلات وغرفة الفيديو، من دون تلقيني ما أقرأ أو أشاهد. سأبقى في سيارتنا شابة، ترافقه كل بضعة أسابيع إلى البحرين؛ لمشاهدة عروض السينما في مجمع السيف التجاري، لتجلس بعدها في مقهى البنديرة تناقشه في ما شاهداه معا. سأبقى يافعة ترافقه في معظم جولات المشي المسائية على ممشى أرامكو، ليتحدثا عن كل شيء يتبادر إلى الذهن. ستبقى يده تتماوج أمامي وهو يحاكي لي المطلع الموسيقي لأغنية «كل ده كان ليه» لمحمد عبد الوهاب. كنا نستمع إليها في السيارة، وكان يطلب مني أن أرى الشبه بين تموجات ذلك اللحن وبين موجات البحر الخفيفة أدنى منا ونحن نعبر جسر البحرين.
سأبقى دوما أتطلع لدخوله المنزل، بعد عناء يوم طويل، مرتديا بدلة «سفاري» بألوان عدة، كما كان عليه معظم مجايليه الفلسطينيين في منطقة الخليج العربي. سأراه بسمرته الدافئة، وأستمع إليه بلهجته الفلاحية، التي لم تنسه إياها عواصم عربية وعالمية عدة حلّ عليها طالبا وموظفا وسائحا.
كثير اللقاء كان قليلا بالفعل يا أبي.

اترك رد

زر الذهاب إلى الأعلى