آراء وكتاب

غروب آخر في بلدتي … د. منتهى الطراونة

الوصلة نيوز – غروب آخر في بلدتي التي كانت قرية صغيرة، ما زلت أرسم تفاصيله؛ بيوت متلاصقة، وطرقات ترابية؛ ليست هي الشريان الوحيد الذي يجمع قلوب ساكنيها، فالتواصل، والتراحم هو مَن يفعل، ونور القمر؛ هو من يضيء، فلا كهرباء تؤذي النظر، وتفسد جمال السماء، وصفيحتها الفضية المنبسطة على القرية، من أولها، وحتى آخر بيت فيها.
قطيع أغنام يتهادى عائدًا من مرعى مجاور، يسبقه صوت جرس يرن معلنًا عن الحضور المهيب، وقطيع ماعز يهرول باحثًا عن بيته، ولا أدري كيف يهتدي إليه في ظل كل التشابه الذي كان!
يندفع الصغار للأمهات بشوق سببه طول الغياب، منذ ساعات الفجر، ﻻ سيارات، وﻻ أبواق، وﻻ منفّرات صوتية تؤذي الأسماع!
قرص الشمس الذي بدا ملتهبًا مثل قلب عاشق؛ يكاد أن يختفي رويدًا رويدًا، يلفّه الأفق الغربي خلف التلال!
صوت أم كلثوم يشدو؛ (جددت حبك ليه بعد الفؤاد ما ارتاح)؛ يأتي من مذياع قديم في بيت مجاور، وأجزم أن كل البيوت لحظتها تسمع ذات اللحن!
بعض من الحليب الطازج، يُغلى على نار هادئة، أكاد أشتمّ رائحة المراعي فيه، وبعض خبز الشراك تخبزه الأمهات، تنتشر رائحته في الحيّ تنعش القلوب؛ من أجل وجبة عشاء تسدّ رمق المنتظِرين منذ الصباح!
عاد الأبناء من الساحة الوحيدة، التي اتخذوها ملعبًا، وكأنهم عادوا من معركة، عرَق يعلو الجباه، كدمات في الأقدام، والأكواع، بعضهم يحمل حذاءه الذي تهتك، ولم يعد صالحًا، وكبيرهم يحمل كرة قدم في الرمق الأخير، ترافقهم ضحكات، ومشاغبات، وكل يدخل لبيته بذات الشوق، واللهفة، والرضا!
الناس سواسية، والقلوب واحدة، لم يتنافر ودّها، ولم يرهقها التناحر على لاشيء، وكل بيوت القرية تستعد لليلة سمر، عامرة بحكايا الجارات، والجدات، والآباء، والأمهات!
يرتفع صوت الحق؛ أنْ حيَّ على الصلاة؛ فيُهرَع الرجال لمسجدها الوحيد، يؤدون صلاة المغرب.
وبين كل هذا وذاك، في المشهد؛ عاشق صغير يظهر، ويختفي في تلك الزاوية، من ذلك الزقاق الضيق، ينتظر ظهور محبوبته، يمتع نظره من بعيد؛ بكثير من البراءة والنقاء!
كنت أراقب المشهد، فأنا جزء منه، قارئة لكتاب، مستمعة لأغنية، يسعدني حفظ القصيدة، وأدعو بالخير لكل الأحبة، وأنتظر عودة أبي؛ الذي ما إن يطلّ؛ حتى ينافس انعكاس الأشعة على زجاج نظارته، ذلك القرص الذي جرى لمستقره؛ ليعود من جديد بإذن ربه، أنتظره كي أطيل النظر في عينيه، وأنا أخشى عليه الرحيل…
تفاصيل قفزت من ذاكرتي، (التي باتت مشوَّشة)، في عالم ظالم، منحاز، وأنا أستمع لصافرات إنذار، تقول للناس، التزموا منازلكم، فالخطر قادم من الشرق، والغرب، ومن كل اتجاه؛ فيأبى الناس إلا الخروج!!

اترك رد

زر الذهاب إلى الأعلى