آراء وكتاب

ليل قريتنا الجنوبية … د. منتهى الطراونة

الوصلة نيوز –  يرخي الليل سدوله على قريتنا الجنوبية الوادعة، وقد انتهت تفاصيل السهرة البسيطة القصيرة، تأوي الطفلة إلى فراشها، فتبدأ التقاطات أذنها لأصوات متداخلة، فرضت نفسها عليها، التقاطات تُحدث في قلبها ما تحدثه من مشاعر لا تفهم كنهها!

فذلك صوت (غناء، عرفت فيما بعد أنه السامر)، يأتي من بعيد، من قرية مجاورة، ترافقه بعض طلقات نارية؛ فالقوم لا يخافون ارتداد الرصاص على أحد، فالساحات فارغة، والعمران قليل)!

يعلو الصوت مرة؛ فيصلك واضحًا، ومرة يتلاشى، فلا تسمع إلا أصوات متداخلة مشوّشة، لكنها مؤنِسة تشي بأن فرحًا هناك!

تتداخل لوحة صوتية ثانية، تقطع عليك الأولى؛ فذلك كلب يعوي بصوت متقطع، وكأنه يتألم، يقطع عليه أنينه صوت كلب آخر، ينبح نباحًا عاليًا متلاحقًا، كأنه يزجر فيه أحدهم، أو ينبهه!

ثم يأتيك صوت (جوقة)، صادرة عن مجموعة من الكلاب، وكأنها تتعارك على غنيمة ما، ثم ما تلبث أن تصمت فجأة، وكأنها حلّت المشكلة، وانصرف كل إلى شأنه!

الطريف في الأمر؛ أنك تميز صوت كلب الجيران عن غيره، وكلب أقربائك الذي يعرفك وتعرفه، ولا يمكن أن يعقرك، وصوت كلب القرية الأكثر شهرة (عُنقر) الذي أثق أن كل أبناء ذلك الجيل، يذكره ويقلد صوته، في لحظات حزنه وفرحه، ثم تستثنيها كلها من المشهد، وتمنحها شهادة براءة، في انحيازك لمن تعرفه، وتعرف تفاصيله!

صوت صرصار الليل يرسله؛ حادًّا، ممعنًا في التقطّع، غير منساب؛ يأتيك معلنًا أنه تحت نافذتك مباشرة، يرسل لك تحياته موقّعة باسمه، متناسيًا أنه لا يمكن أن يلتبس عليك؛ أنه كائن آخر غيره!

تتوالى الأصوات؛ منها ما يؤنس، ومنها ما يثير الخوف، ومنها ما لا تفهم أية أحاسيس انتابتك، وأنت تستمع إليه!

تتوالى المشاهد الحقيقية، والتي يضيفها الخيال، إلى أن يحسم صوت مؤذن الفجر الشجيّ؛ الذي يبكيني، ويحدث في قلبي خفقات متلاحقة، تتوقف بتوقفه معلنة؛ أن الله أكبر من الكون؛ الذي كان في نظر (الطفلة آنذاك) هو؛ القرى وأهلها فقط، قبل أن يتسع، ويمتد، ليصل إلى أطراف الأرض، وكل بقاعها، ويتداخل، وتعمه الفوضى!

عازف ليل القرى الذي كان يشديني بمعزوفاته، ويشجيني، ويشهده معي سماء صافية، ونجوم، أو قمر، حلّ محله اليوم؛ (بلا احترام مواعيد، ولا مشاعر، ولا موت، ولا مرض، ولا أرَق)؛ أبواق سيارات، وصوت إطارات تمعن في حركتها على الأسفلت، حتى تظن أنها أعادت الأرض خالية منه تمامًا، ومكبرات صوت، وأغنيات أشبه بمعارك تدار، وأصوات تفجيرات ألعاب نارية، وطلقات رصاص حيّ، ربما ترتد على رأسك، إن ساء حظك، وكنت جالسًا على شرفة بيتك، وصواريخ تأتي من قاع الجزيرة، تتعارك مع أخرى، في سمائك، وربما تسقط في شارعك، أو حديقتك، تسمع صوت ارتطامها بالأرض، في خبر مفاده؛ أن شقيقًا لك فارت دماؤه، وهبَّ لنجدة شقيق آخر، يمعن فيه العالم الظالم المتوحش المنحاز، وجوقة كلاب من نوع آخر، لا يقدر أحد على ردعها، يمعن فيه ذبحًا، وتجويعًا، وإبادة، تأتيك أخباره عاجلة، على شريط يتحرك أمامك على الشاشات، وأنت تأكل، وتبالغ في مآدبك، وتحتسي قهوتك، وتعرض صورك الفاتنة، وتنسى أنه من لحمك ودمك، وأنه على بعد خطوات منك!

اترك رد

زر الذهاب إلى الأعلى