طَيْفٌ… بقلم : عايدة معايطة

الوصلة نيوز –
قصة قصيرة
طَيْفٌ…
وَقَفَتْ فِي الْحَدِيقَةِ الْعَامَّةِ، فِي لَحْظَةٍ غَرِيبَةٍ، لَمْ تَكُنْ تُشْبِهُ شَيْئًا مِمَّا عَرَفَتْهُ.
تَوَقَّفَ الزَّمَنُ، كَأَنَّهُ تَعِبَ مِنَ الْجَرْيِ، وَقَرَّرَ أَنْ يَسْتَرِيحَ.
خَفَتَتِ الْأَصْوَاتُ، وَسَكَنَ النَّسِيمُ، وَبَدَتِ الْأَشْجَارُ كَأَنَّهَا تَتَنَفَّسُ بِهُدُوءٍ، وَهِيَ تُرَاقِبُهَا.
كَانَتْ وَحِيدَةً، لَكِنَّهَا لَمْ تَشْعُرْ بِالْوَحْدَةِ.
فَحَوْلَهَا، تَفَتَّحَتْ أَزْهَارُ الْفَاوَانْيَا، فَاحَ عِطْرُهَا، وَانْسَابَ فِي الْهَوَاءِ كَنَغْمَةٍ قَدِيمَةٍ.
تَأَمَّلَتْهَا طَوِيلًا، كَأَنَّهَا تَرَاهَا لِلْمَرَّةِ الْأُولَى.
ثُمَّ…
مَرَّ طَيْفُهُ فِي ذَاكِرَتِهَا.
خَفِيفًا، دَافِئًا، لَا يُسْمَعُ وَلَا يُرَى، بَلْ يُحَسُّ.
كَانَ حُضُورُهُ كَضَوْءٍ يَنْبُضُ فِي قَلْبِهَا.
هَمَسَتْ:
ــ “كُنْتَ تَقُولُ: إِنَّ الْفَاوَانْيَا تُشْبِهُنِي… رَقِيقَةً، وَلَكِنَّهَا تَخْفِي قُوَّةً.”
تَبَسَّمَتْ…
وَلَكِنَّهَا لَمْ تَكُنِ ابْتِسَامَةَ سُرُورٍ، بَلْ ذِكْرَى تَتَفَتَّحُ فِي زَاوِيَةٍ مَا مِنَ الْقَلْبِ.
جَلَسَتْ تَحْتَ شَجَرَةٍ عَجُوزٍ، أَسْنَدَتْ ظَهْرَهَا، وَأَغْمَضَتْ عَيْنَيْهَا.
فِي السُّكُونِ، سَمِعَتْ كَيْفَ كَانَ يَنْطِقُ بِاسْمِهَا…
وَكَيْفَ كَانَتْ نَبْرَتُهُ تَحْمِلُ كُلَّ مَا لَمْ يَقُلْهُ.
تَفَتَّحَتِ الذِّكْرَى، كَزَهْرَةٍ تُصِرُّ عَلَى الْحَيَاةِ، رَغْمَ كُلِّ شَيْءٍ.
وَتَذَكَّرَتْ…
كَيْفَ كَانَ يُمْسِكُ بِيَدِهَا فِي الْحَدِيقَةِ نَفْسِهَا، وَيَقُولُ:
ــ “فِي حُضُورِكِ، كُلُّ مَكَانٍ يُصْبِحُ وَطَنًا.”
وَالْآنَ، وَهِيَ وَحِيدَةٌ، شَعَرَتْ أَنَّ الْوَطَنَ تَبَعْثَرَ بَعْدَهُ.
وَلَكِنَّ الْفَاوَانْيَا لَا تَزَالُ هُنَا، تُقَاتِلُ الْفَنَاءَ، وَتَفُوحُ بِالْحَنِينِ.
أَخْرَجَتْ مِنْ جَيْبِهَا قِطْعَةَ وَرَقٍ، كَتَبَتْ عَلَيْهَا:
> “إِلَيْكَ…
إِلَى الَّذِي سَكَنَ ذَاكِرَتِي، وَرَحَلَ عَنْ عَيْنِي.
فِي كُلِّ زَهْرَةٍ، أَرَاكَ…
فِي كُلِّ سُكُونٍ، أَسْمَعُ نَفَسَكَ.
وَلَكِنَّنِي الْيَوْمَ، أَكْتُبُ لَكَ الرِّسَالَةَ الْأَخِيرَةَ.
لَنْ أَنْتَظِرَ ظِلَّكَ، وَلَنْ أُفَسِّرَ غِيَابَكَ.
سَأَتْرُكُكَ بَيْنَ زُهُورِ الْفَاوَانْيَا، فَهُنَّ يَفْهَمْنَكَ كَمَا فَهِمْتُكَ أَنَا.”
طَوَتِ الرِّسَالَةَ، وَوَضَعَتْهَا بَيْنَ الْوُرُودِ.
هَبَّ نَسِيمٌ خَفِيفٌ، فَرَفْرَفَتِ الْوَرَقَةُ، وَارْتَفَعَتْ فِي الْهَوَاءِ.
نَظَرَتْ إِلَيْهَا تَطير عّالِياً ، وَابْتَسَمَتْ.
ثُمَّ قَامَتْ، وَمَشَتْ بِخُطًى هَادِئَةٍ…
تَرَكَتْ وَرَاءَهَا كُلَّ شَيْءٍ…
وَجْهًا بَاهِتًا، وَذِكْرَيَاتٍ احْتَضَنَتْهَا أَزْهَارُ الْفَاوَانْيَا.
من مجموعتي القصصية الجديدة ..
*حكايات غير مُعلنة*