آراء وكتاب

في قريتنا الجنوبية … د. منتهى الطراونة

في قريتنا الجنوبية البعيدة آنذاك، احترام لكل مكونات ذلك المجتمع الصغير من إنسان، وشجر، وحيوان، وحجر!

ومثلما اشتهرت بعض الشخصيات، من رجال، ونساء وأطفال، اشتهرت بعض الأشجار؛ أشجار ترمز للخصب والحياة، هبة من الله الذي جعل منها الجنة، وخصها مثل كل مخلوقاته بالرحمة، وكنت قرأت أنه سبحانه، من شدة رحمته بها، زوّدها بمادة تفرزها عند قطعها؛ مادة تشبه المخدّر، كي لا تحس بالألم!

كل القرية كانت تعرف شجرة المشمش، التي ارتبطت باسم (حفيظة المعانية)، وشجرة التفاح ل(يسرى الفلسطينية)، وشجرة اللوز (للحاجة ازعول العساسفة)، شجيرات كانت محصورة داخل جدران (الحيشان)، باستثناء شجيرة الحاجة ازعول، فهي بلا جدران، متاحة لكل العابرين، يأكلون منها لوزًا طريًّا شهيًّا…

في خاصرة القرية الغربية، في الحيّ الجديد، كانت شجرة الكينا الضخمة، تقف شامخة مثل شموخ صاحبها؛(عمي حماد، أبو تركي)، وعرفت باسم (شجرة الحمّاد)، التي أصبحت معلمًا جميلًا، حتى امتدت إليها يد شركة الكهرباء؛ لتقلمها من الأعلى، حين غزت فضاءها أسلاك الكهرباء، التي وصلت للقرية، وكلما كانت تنقطع لسبب، أو لآخر تُحَمّل المسؤولية للكينا المسكينة للأسف…

في أقصى الحارة الغربية؛ كانت شجرة التوت الأبيض الحلو مثل الشهد، (شجرة الفرحان)، شجرة بلا جدران أيضًا، ولا أسوار، مزروعة عند باب البيت الرئيس، مباشرة على الشارع، يقصدها كل عابر يأخذ حاجته، أو يأكل منها، وهو يستريح قليلًا عندها، يجلس تحتها بعد عصر كل يوم، العم (حسين الحوراني، أبو نبيل)، والخال (فرحان النوايسة أبو هيثم)، للعب طاولة الزهر، ينغمسون في اللعب، بحيث لا يسمعون تحية كل من يمر، أو يتوقف، أو يراقب، لا ينظرون لأحد، ولا يهمهم غير رمي الحجر، ولا تسمع غير؛ شيش، بيش، وكلمات مبهمة لم أكن أفهمها، وكثيرًا ما كان (أبو عبدالله)، يحب مجالستهم، والاستمتاع بالمراقبة فقط، وإلى جوارهم درَج، كنا نصعد عليه إلى السطح، نتتبع حبيبات التوت في الأعلى، والدرج في الشارع أيضًا، بلا بيت خاص به، ومتاح للجميع، وإلى جوار التوتة، غرفة صغيرة، فيها فرن تخبز فيه شقيقتي (أم هيثم) خبزها الشهيّ، وتشوي فيه صواني الدجاج، والكفتة، وهي متاحة لكل زائر يأتي بلا موعد، عبر نفوس طيبة، وبساطة، وكرم عزّ نظيرهما…

بالأمس؛ قادتني خطاي، بل قلبي، لذلك الحيّ، توقفت أمام الباب، السور محاط بإطار من حديد، ضُرِب عليه باب مقفل، لا أدري من صاحب البيت الجديد، أو ساكنه، بعد أن فرّط الأبناء بهذا الإرث، وآلت الملكية لغريب،،،
أطلّت شجيرة التوت برأسها، وكأنها تساءلني لماذا جئتِ؟!

هنيهة، بل أقل؛ جلدتك الذاكرة بسياطها؛ فعادت الأصوات، والوجوه، والضحكات، وروائح الطعام، وصراخ الأطفال، وصوت أحجار النرد، ترن فوق رقعة الخشب، ولا تنتظر الربح، وأنا؛ أبادر فأجمع للجالسين تحت الشجرة، بعض حبات التوت، وأوزعها (بتحيّز)، وتحايا المارين، وشغب أطفال عند السيارة المتوقفة؛ يستطلعون ما بداخلها، وأم هيثم تحمل أرغفة الخبز الساخن الشهي، توزعه على الحاضرين، مع كاسة من الشاي بالنعناع، وشمس آلت للمغيب، وصوت الحق ينادي؛ الله أكبر، حيَّ على الصلاة….

غادرت المكان، وأنا لا أدري لماذا جئت، وكيف…

الصورة المرافقة، لتلك الشجرة من أرشيفي.

اترك رد

زر الذهاب إلى الأعلى