العملاق الصيني : هدوء التنين في زمن الصواريخ

الوصلة نيوز – الصين تعرف أن ساحة الشرق الأوسط لم تعد هامشية بل تتحول تدريجياً إلى مسرح فرعي لصراع القوى الكبرى. وهي في ذلك تعتمد سياسة معقدة من الحذر والتوازن.
في خضم التصعيد العسكري المتسارع والخارج عن السيطرة بين إيران وإسرائيل، لم تكن الصين محور الأحداث المباشر، لكن دورها لم يكن غائباً عن المشهد. فبينما تتجه الأنظار فوراً إلى واشنطن وطهران وتل أبيب ظل المراقبون والسياسيون يتابعون بحذر موقف بكين التي تجمعها علاقات استراتيجية متشابكة مع الطرفين. هذا الحضور الهادئ يعكس اهتمام الصين العميق بأمن إمدادات الطاقة واستقرار المنطقة خاصة في ظل تبعيتها النفطية لإيران وتطلعها إلى حماية مصالحها الاقتصادية الواسعة.
في خلفية المشهد كانت واشنطن تُواصل إدارة واحدة من أكثر المواجهات تعقيداً عبر التاريخ الحديث. فالدعم العسكري والغطاء السياسي الذي تمنحه إسرائيل لا يترك شكاً بأن ما يجري يتجاوز حسابات ردع متبادل بين طهران وتل أبيب. هناك من يقرأه باعتباره رسالة غير مباشرة إلى الصين نفسها التي ترتبط بشراكة استراتيجية طويلة الأمد مع إيران وتشكل الأخيرة أحد المزودين الأساسيين للنفط الخام إلى السوق الصينية ولا سيما بعد الحرب في أوكرانيا والعقوبات الغربية على روسيا. في هذا السياق يبدو أن الولايات المتحدة تضيّق الخناق على أمن الطاقة الصيني من خلال إشعال الهشيم حول منابع نفطه.
الصين تعرف أن ساحة الشرق الأوسط لم تعد هامشية بل تتحول تدريجياً إلى مسرح فرعي لصراع القوى الكبرى. وهي في ذلك تعتمد سياسة معقدة من الحذر والتوازن. فمن جهة تربطها بإيران علاقات وثيقة تتجاوز الجغرافيا إلى السياسة والاقتصاد تشمل اتفاق تعاون مدته 25 عاماً واستثمارات ضخمة في قطاعي الطاقة والبنية التحتية. ومن جهة أخرى تحتفظ بتعاون متقدم مع إسرائيل في مجالات التكنولوجيا والذكاء الاصطناعي والاقتصاد الرقمي وتُدير شركاتها جزءاً من الموانئ الإسرائيلية الحيوية.
أجرى وزير الخارجية الصيني وانغ يي اتصالين متوازيين مع نظيريه في طهران وتل أبيب كرر فيهما المواقف ذاتها: رفض التصعيد، احترام القانون الدولي، والاستعداد للعب دور بنّاء، لكنه لم يستخدم نبرة حادة ولم يُحمّل أي طرف المسؤولية بشكل مباشر في ترجمة واضحة لمبدأ “الحياد النشط” الذي تتبناه بكين في الملفات المعقدة.
لكن خلف هذه اللغة الديبلوماسية تحاول الصين حماية مصالحها الحيوية دون أن تبدو كأنها تدخل في مواجهة مفتوحة مع الولايات المتحدة. فالعقوبات على إيران تُضر بالاقتصاد الصيني بشكل غير مباشر إذ ترفع كلفة الشحن والتأمين، وتضعف الاستقرار الإقليمي الضروري لتدفق الاستثمارات في مبادرة الحزام والطريق. ومن هنا فإن أي حرب في الخليج تمثل تهديداً اقتصادياً لبكين حتى لو لم يُطلق عليها اسم.
في هذا السياق، رحبت الصين رسمياً في 17 حزيران/ يونيو 2025 بالبيان المشترك الصادر عن 21 دولة عربية وإسلامية والذي دعا إلى احترام سيادة الدول والتمسك بحسن الجوار وحل النزاعات بالطرق السلمية. المتحدث باسم الخارجية الصينية قوه جيا كون أكد أن الهجوم الإسرائيلي على إيران أدى إلى “تصعيد مفاجئ في الوضع الإقليمي” مشدداً على أن الأولوية القصوى هي وقف إطلاق النار ومنع توسع الصراع. وأعلن أن بكين مستعدة للحفاظ على تواصلها مع جميع الأطراف ولعب “دور بنّاء” في تهدئة الموقف وهو تصريح لا يُقرأ بمعزل عن قلق الصين من تحول هذا التوتر إلى أزمة أوسع تهدد مصالحها في المنطقة بأكملها.
ما يميز الصين في هذه المرحلة أنها لا تحاول اللعب على التناقضات فقط بل تسعى لتكريس نفسها كقوة مسؤولة. ليست وسيطاً تقليدياً ولا تدّعي الحياد الكامل لكنها ترفض الانحياز المكلف. وبخلاف روسيا أو أميركا، لا تبني سياستها الخارجية على النفوذ العسكري بل على الاستثمار والربط اللوجستي والاعتماد المتبادل.
لذلك حين دعت الصين إلى تهدئة عاجلة وعبّرت عن قلقها من تهديدات الأمن الإقليمي لم تكن تفعل ذلك من باب الخشية الديبلوماسية بل من منطلق استراتيجي يرتبط مباشرة بأمن طاقتها واستقرار أسواقها وتمدد مشاريعها الجيوسياسية.
قد لا تبدو الصين في واجهة الأزمة لكنها حاضرة فيها بعمق. من بيانات سفارتها في طهران وتل أبيب إلى اتصالاتها المكثفة إلى سلوكها الحذر في مجلس الأمن. هي لا تصرخ، لكنها تُراقب وتُراكم أوراقها وتُذكّر العالم مرة بعد مرة أنها لم تعد مجرد شريك اقتصادي بل طرف لا يمكن تجاوزه في معادلات القوة الجديدة.
ربما لم تقل كلمتها الأخيرة بعد لكنها في كل أزمة جديدة تثبت أن صوتها وإن كان هادئاً صار مسموعاً.